عن الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَلَإٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ، يَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى، فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لاَ أَدْرِي مَنْ هُوَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: لاَ أُرَى القَوْمَ إِلَّا قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ، قَالَ: إِنَّهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ لِي خَلِيلِي، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟» قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ، وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، أُنْفِقُهُ كُلَّهُ، إِلَّا ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ» وَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، لاَ وَاللَّهِ، لاَ أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلاَ أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ، حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ.
[صحيح] - [متفق عليه]

الشرح

قال الأحنف بن قيس: جلست مع جماعة من قريش، فجاء رجل خشن الشعر وخشن الثياب والهيئة، حتى وقف عليهم فسلم، ثم قال لهم: بشر الذين يكنزون ويجمعون الذهب والفضة ولا يؤدون زكاتها، بحجارة يُوقد عليها في نار جهنم، ثم توضع الحجارة على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من العظم الرقيق الذي على طرف كتفه، وتوضع الحجارة على عظمة كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه، وهذه الحجارة تتحرك وتضطرب من الكتف إلى الحلمة، ثم انصرف فجلس إلى عمود، فتبعه الأحنف وجلس عنده وهو لا يدري من هو؟ فقال له: لا أظن إلا أن القوم كرهوا الكلام الذي قلته، قال له أبو ذر: إنهم لا يعقلون شيئًا، وفسره بجمعهم للدنيا، قال لي خليلي، فسأله الأحنف: من هو خليلك؟ فأجابه: أن خليله هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له عليه الصلاة والسلام: يا أبا ذر هل ترى جبل أُحد؟ فنظر إلى الشمس ليعرف القدر الذي بقي من النهار وينظر الذي بقي منه، فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم سيرسله إلى شيء يحتاجه، فأجابه: نعم أرى جبل أُحد، قال عليه الصلاة والسلام: لا أحب أن يكون لي مثل جبل أُحد ذهبًا أنفقه لخاصة نفسي كله إلا ثلاثة دنانير، وهذا المقدار لقضاء الدين المتوقع، كما دلت عليه الروايات الأخرى، أو أنها كانت كفايته صلى الله عليه وسلم في اليوم، وهذا محمول على الأولوية لأن جمع المال وإن كان مباحًا لكن الجامع مسؤول عنه، وما ورد من الترغيب في تحصيله وإنفاقه في حقه محمول على من وثق بأنه يجمعه من الحلال الذي يأمن معه من خطر المحاسبة، قال أبو ذر: وإن هؤلاء لا يعقلون، لأنهم إنما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم شيئًا من متاع الدنيا، بل أقنع بالقليل وأرضى باليسير، ولا أستفتيهم في الدين اكتفاءً بما سمعته من العلم من النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألقى الله عز وجل.

الترجمة:
عرض الترجمات

معاني الكلمات

ملإٍ:
أشراف ورؤساء.
رضف:
الحجارة المحماة على النار.
نغض كتفيه:
العظم الرقيق الذي في طرف الكتف.
يتزلزل:
يتحرك حركة شديدة ويضطرب.
ولى:
انصرف.
سارية:
العمود الذي يرتكز عليه السقف.

من فوائد الحديث

  1. مشروعية الزهد في الدنيا والاكتفاء بما يسد الحاجة.
  2. مذهب أبي ذر رضي الله عنه أنه يرى أن أخذ ما فضل عن حاجة الإنسان يعتبر من الكنز المتوعد عليه.
  3. الأخذ بالقرائن؛ لأن أبا ذر رضي الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتبصر أحدا؟" فهم منه أنه يريد أن يرسله في حاجة، فنظر إلى ما على أحد من الشمس؛ ليعلم هل يبقى من النهار قدر يسعها.
  4. جواز الحلف بغير تحليف، ويستحب إذا كان لمصلحة، كتأكيد أمر مهم، وتحقيقه.
  5. تقديم وفاء الدين على صدقة التطوع.
  6. الحث على وفاء الديون، وأداء الأمانات.
  7. الحض على إنفاق المال في الحياة وفي الصحة، وترجيحه على إنفاقه عند الموت.
المراجع
  1. صحيح البخاري (2/ 107) (1407)، صحيح مسلم (2/ 689) (992)، النهاية في غريب الحديث والأثر (879) (361) (929)، البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (19/ 228) (19/ 217)، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (3/ 13).