عَنِ الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ، أُخْتَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ -وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ- فَقَالَ: حَدِّثِينِي حَدِيثًا سَمِعْتِيهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا تُسْنِدِيهِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ، فَقَالَتْ: لَئِنْ شِئْتَ لَأَفْعَلَنَّ، فَقَالَ لَهَا: أَجَلْ حَدِّثِينِي فَقَالَتْ: نَكَحْتُ ابْنَ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ مِنْ خِيَارِ شَبَابِ قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ، فَأُصِيبَ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا تَأَيَّمْتُ خَطَبَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَطَبَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوْلَاهُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكُنْتُ قَدْ حُدِّثْتُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ أُسَامَةَ» فَلَمَّا كَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: أَمْرِي بِيَدِكَ، فَأَنْكِحْنِي مَنْ شِئْتَ، فَقَالَ: «انْتَقِلِي إِلَى أُمِّ شَرِيكٍ» وَأُمُّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ غَنِيَّةٌ، مِنَ الْأَنْصَارِ، عَظِيمَةُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، يَنْزِلُ عَلَيْهَا الضِّيفَانُ، فَقُلْتُ: سَأَفْعَلُ، فَقَالَ: «لَا تَفْعَلِي، إِنَّ أُمَّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ كَثِيرَةُ الضِّيفَانِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْكِ خِمَارُكِ أَوْ يَنْكَشِفَ الثَّوْبُ عَنْ سَاقَيْكِ، فَيَرَى الْقَوْمُ مِنْكِ بَعْضَ مَا تَكْرَهِينَ، وَلَكِنِ انْتَقِلِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» -وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فِهْرٍ، فِهْرِ قُرَيْشٍ وَهُوَ مِنَ الْبَطْنِ الَّذِي هِيَ مِنْهُ- فَانْتَقَلْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتِي سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي، مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُنَادِي: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِي ظُهُورَ الْقَوْمِ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ»، ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «إِنِّي وَاللهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ، لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ، حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ، مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ، فَلَعِبَ بِهِمِ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ أَرْفَؤوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ، لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ، مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ، قَالَ: لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا، حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا، وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ، قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي، فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ، فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا، ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ، فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا، فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ، لَا يُدْرَى مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقُلْنَا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قُلْنَا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: اعْمِدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ، فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا، وَفَزِعْنَا مِنْهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا، هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ، قَالُوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ، قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ، قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي، إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ، فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ، فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً -أَوْ وَاحِدًا- مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا، يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ: «هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ» -يَعْنِي الْمَدِينَةَ- «أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟» فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، «فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ، أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ، وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ» وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ، قَالَتْ: فَحَفِظْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[صحيح] - [رواه مسلم]

الشرح

سأل الشَّعبيُّ فاطمةَ بنت قيس أخت الضّحّاك بن قيس - وكانت مِن النِّساء الصحابيات اللّاتي هاجرن في أوائل الهجرة إلى المدينة - قائلًا: حَدِّثيني حديثًا سمعتيه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، فقالت: إذا شئت سأُحَدِّثك حديثًا سمعته مِن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، فقال لها الشَّعبي: نعم حدثيني بهذا الوصف، فقالت: نكحتُ ابن المغيرة، وهو مِن أفضل شباب قريش يوم إذ تزوجني، ومِن فَضائله أيضًا أنّه أصيب في أول الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعةً له، فلما تَطَلَّقت منه وأصبحت لا زوج لي، خطبني عبد الرحمن بن عوف، وهو مِن العشرة المبشرين بالجنة، مع جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وخطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزوجني أسامة بن زيد، حِبّ رسول الله وابن حِبِّه، وكان قد أخبرني بعض الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَن أحبَّني فليحب أسامة، تنويهًا بِشَرَفِه ورِفْعَة قدره، فلما كلَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدَيْت كراهتي له؛ لكونه مولى، ثم لّما أعاد عليها النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا بدلالة الرواية الأخرى، قالت له صلى الله عليه وسلم: جعلتُ أمر نكاحي بيدك وتصرفك، فزَوِّجْني مَن شئت أسامة أو غيره، فقال صلى الله عليه وسلم لها: انتقلي مِن المكان الذي أنت فيه؛ لأنها شَكَتْ إليه أنها في بيتٍ خالٍ، تخشى أن يُقتَحم عليها، فأمرَها بأن تنتقل إلى بيت أم شريك، وهي امرأة غنية مِن الأنصار كثيرة النَّفقة في الخير، يأتيها الكثير مِن الضيوف، فقلت: سأفعل وسأنتقل إلى بيتها، فقال صلى الله عليه وسلم بعدما تذكَّر أنّ بيت أم شريك لا يليق بها؛ لكثرة من يزورها مِن الرجال، قال لها: لا تنتقلي إليها؛ لأن أم شريك امرأة كثيرة الضيوف، فأكره أن يَسقط منك خمارك الذي تستترين به أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين أن يراه الأجانب، أي: أنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزورون أم شريك، ويُكثِرون التَّردُّد إليها لصلاحها، وإنفاقها عليهم، ولمّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنّ على فاطمة مِن الاعتداد عندها حرجًا، مِن حيث إنّه يلزمها التَّحَفُّظ مِن نظرهم إليها ونظرها إليهم، وانكشاف شيء منها، وفي التَّحفظ مِن هذا مع كثرة دخولهم وتردُّدِهم مشقَّةٌ ظاهرةٌ، أمرها بالاعتداد عند ابن أم مكتوم؛ لأنَّه لا يبصرها، ولا يتردَّد إلى بيته مَن يتردَّد إلى بيت أم شريك، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتقل إلى بيت ابن عمِّها عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم، وهو رجل من بني فِهر، وفِهر قريش، وهو مِن نفس القبيلة التي هي منها، والمراد أنه ابن عمها مجازًا؛ لكونه مِن قبيلتها، فانتقلت إلى ابن أم مكتوم، فلما انتهت عدتُها وحلت للأزواج زوجها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، ثم ذكرت قصة المسيح الدجال، قالت: سمعتُ نداء مُنادي النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: الصلاة جامعة، فخَرجت إلى المسجد، وصلَّيْت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت في صفِّ النِّساء الذي بعد صفِّ الرِّجال، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الصلاة جلس على المنبر، وهو يضحك، وقال: لِيَلتزم كلّ واحدٍ منكم موضع صلاته، فلا يتغيَّر ولا يتقدَّم ولا يتأخَّر، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أتعلمون لماذا جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إني والله ما جمعتكم لأمر مرغوب فيه مِن عطاءٍ كغنيمة، ولا لخوفٍ مِن عدوٍّ، ولكن جمعتكم؛ لأن تميم الدّاريَّ كان نصرانيًّا مُعتقدًا دين النَّصارى، فجاء إليَّ ودخل في الإسلام، وأخبرني بحديث مثل الذي كنت أُحدِّثكم عن شؤون المسيح الدَّجال وفتنته، وهذا مِن مناقب تميم رضي الله عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: حدثني تميم أنَّه ركب في سفينة بحريَّة كبيرة، مع ثلاثين رجلًا مِن لَخْم وجُذام قبيلتان معروفتان، فدار بهم الموج شهرًا، ثم قرَّبوا السفينة إلى جزيرة في البحر حتى تغرب الشمس، فتحولوا من السفينة الكبيرة، وجلسوا إلى السفينة الصغيرة التي تكون مع الكبيرة، ويتصرَّف فيها ركاب السفينة؛ لقضاء حوائجهم، فدخلوا الجزيرة فرأتهم دابة كثيرة الشعر لا يعلمون قُبلَها مِن دُبرها، أي: لا يعلمون أمامها مِن خلفها، ولا وَجْهَها مِن قَفاها، بسبب كثرة الشَّعر، فقالوا: ويلك أيّ جنس أنت مِن الحيوان؟ فقالت: أنا الجسَّاسة، وسميت بذلك؛ لتَجَسُّسِها الأخبار للدَّجال، ولهذا اشتهر هذا الحديث بحديث الجساسة، كما تُسمَّى السورة الطويلة بالكلمة التي ترد فيها، قالوا: وما هي الجسَّاسة؟ قالت: اذهبوا إلى هذا الرَّجُل في القصر، فإنّه عظيم الاشتياق إلى خبركم، قال تميم: فلما ذكرت لنا رجلًا خِفْنا مِن أن تكون تلك الدّابَّة شيطانة، فذهَبْنا مُسرِعين حتى دخلنا عليه، فلقوا فيه أكبر إنسان جثّةً، وأهيبَه هيئةً، لم يروا مثله قطّ في الخَلق، قَوِي الوثاق، أي: الرَّبط، مجموعة يداه إلى عنقه، وما بين ركبتيه إلى كعبيه مجموعٌ ومغلولٌ أيضًا بالحديد، يعني كانت يداه وساقاه مجموعة إلى عنقه بالحديد، قالوا: ويلك أيّ جنس أنت، إنسي أم جني؟ قال الرجل: قد تمكنتم من خبري، فإني لا أخفيه عنكم فأحدثكم عن حالي، فأخبروني عن حالكم، وما أسأله عنكم أولًا، فقالوا: نحن ناس مِن العرب، وقصوا عليه ما كان منهم في السفينة وملاقاتهم الجسَّاسة، فقال الرجل: أخبروني عن نخل بَيْسان، وهي قرية بالشام توصف بكثرة النَّخل، قالوا: عن أيّ شيءٍ تطلب مِن خبر بَيْسان؟ قال: أسألكم عن نخلها، هل يُثْمِر؟ قالوا: نعم يُثْمِر، قال: أما إنّه قرب ألّا يُثْمِر، قال الرَّجل: أخبروني عن بحيرة الطَّبريَّة، وهي في الأردن، قالوا: عن أيّ شيءٍ تطلب خبرَها ؟ قال: هل في البحيرة ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إنّ ماءَها قَرُب مِن أن يفنى ويَنْفَد، وذلك أنّ يأجوج ومأجوج سيشربونه كلّه، كما في النّصوص الأخرى، حتى يقول آخرهم: لقد كان ههنا مرَّة ماء، قال: أخبروني عن عين زُغَر، وهي بلدة معروفة في الجانب القبليّ مِن الشام، قالوا: عن أيّ شأنها تطلب خبرها؟ قال: هل في عينها ماء؟ وهل يزرع أهل البلدة مِن ماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون مِن مائها، فقال -كما في رواية أخرى-: أما إنّه سوف يَغور ماؤُها، فلا يحتَرِث عليها أهلُها، وفي الأسئلة المذكورة، وأجوبتها المسطورة، إشارة إلى أنها علامات لخروجه، وأمارات لذهاب بركتها؛ بشؤم ظهوره ووصوله. ولما كانت هذه الأسئلة توطئة لِما بعدَها، قال الدَّجال مُعرِضًا عن الجواب الثاني، وبادر إلى السؤال المقصود، وهو ظهور محمَّد صلى الله عليه وسلم المحمود، أخبروني عن نبيِّ الأُمِّيين، أي: العرب، ما صنع بعدما بعث؟ قالوا: قد خرج مِن مكة، وهاجر إلى المدينة، قال: هل قاتَلَه العرب؟ قالوا: نعم، قاتلوه، قال: كيف صنع في مقاتلته لهم؟ فأخبروه أنه قد ظهر على مَن يليه مِن العرب، وامتثلوا ما أمرهم به، قال لهم: هل كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن طاعتهم له خير لهم مِن مخالفته. وإني سوف أخبركم عني، أنا المسيح الدجال، صاحب الفتنة العظمى التي تحدث آخر الزمان، وإني قَرُبَ أن يُؤذَن لي بالخروج، فأخرج وأسير في الأرض، فلا أترك قرية إلّا سِرْت فيها في أربعين ليلة، وهذا أحد أوجه تسميته بالمسيح؛ لكون سِياحته مرورًا كالمسح، إلّا مكَّة والمدينة، فهما ممنوعتان عليّ دخولهما، كلَّما أردت أن أدخلهما يستقبلني ملكٌ يمسك بيده سيفًا مجردًا مِن الغِمْد، يمنعني عن كلّ واحدةٍ منهما، وإنّ على كلِّ طريقٍ أو بابٍ منهما ملائكة يحرُسونها مِن الآفات والفتن والبَلِيّات. قالت فاطمة رضي الله عنها: لَمّا ذكَر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ضَرَب بِعَصاه على المنبر، وقال: هذه طَيْبَة. وكرَّرها ثلاثًا للتَّأكيد، أي: إنّ هذه هي المدينة المحروسة، فقال: ألا، أي: انتَبِهوا، هل كنت حدَّثتكم مِثْل هذا الحديث؟ فقال الحاضرون: نعم، قد حدَّثْتَنا بذلك، فقال: إنّه أعجبني أن وافَق حديثه تمام الحديث الذي حدَّثتكم، إنّ الدَّجال في بحر الشام، أو بحر اليمن، وهذا ظنٌ منه عليه الصلاة والسلام، ثمَّ تيَقَّن له مِن جهة الوحي، أو غلب على ظنِّه فقال: لا، بل هو مِن قِبَل المشرق، قالت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: فحفظت هذا الحديث بطوله مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: فلم أسمعه مِن غيره، وإنما قالت هذا؛ لأنّ الشَّعبي شَرَط عليها أن تحدِّثه بما سمعت مِن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا حدَّثته أكَّدت له أنَّ هذا مما سمعته منه صلى الله عليه وسلم مباشرة، دون أيّ واسطة.

الترجمة:
عرض الترجمات

معاني الكلمات

لَا تُسْنِدِيهِ:
لا تنسبيه.
تأيمت:
تطلقت.
انقضت عدتي:
انتهت.
تلي ظهور القوم:
التي بعد صفوفهم مباشرة.
ليلزم كل إنسان مصلاه:
ليلتزم كل منكم بموضع صلاته لا يجاوزه.
لرغبة ولا لرهبة:
لأمر مرغوب فيه ولا أمر مخوف منه.
وافق:
ماثل.
لخم وجذام:
قبيلتان معروفتان.
أرفؤوا:
قربوها من الجزيرة.
أهلب:
كثيرة الشعر.
الدير:
القصر.
فرقنا:
خفنا.
أعظم إنسان رأيناه قط خلقًا:
أكبر وأضخم خلق رأوه.
أشده وثاقًا:
قوي الرباط.
قد قدرتم على خبري:
تمكنتم منه.
اغتلم:
هاج واضطرب.
اعمدوا:
اذهبوا.
ظهر على من يليه من العرب:
غلب عليهم.
أوشك:
اقترب.
صلتًا:
مجردًا.
يصدني عنها:
يمنعني.
نقب:
طريق.
طعن بمخصرته:
ضرب بعصاه.
أومأ:
أشار.

من فوائد الحديث

  1. حرص السلف على سماع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
  2. حرص السلف على طلب العلو في الرواية.
  3. شرف ورفعة ومكانة أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
  4. حرص المُعتدة خاصةً على تحفظها وعدم اختلاطها بالرجال.
  5. بيان أن أطراف شعر الحرة وساقيها عورة، فيجب عليها سترها عن الأجانب، سواء كانت في بيت من البيوت أو في الشارع.
  6. جواز خروج النساء للصلاة في المساجد.
  7. بيان صفوف المساجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأن صف النساء يكون خلف الرجال.
  8. بيان مناقب تميم رضي الله عنه وأن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه.
  9. بيان بعض علامات ظهور المسيح الدجال.
  10. صرف الله تعالى المسيح للتحدث والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينطق إلا الحق تأييدًا له عليه الصلاة والسلام.
  11. بيان فضل مكة والمدينة.
  12. عدم دخول الدجال لمكة والمدينة.
  13. أن النبي صلى الله عليه وسلم بشرٌ يظن ويشك، كما أنه يسهو وينسى، إلا أنه لا يتمادى ولا يُقَر على شيء من ذلك، بل يرشد إلى التحقيق، ويسلك به سواء الطريق.
  14. خروج المسيح الدجال سيكون من قِبل المشرق.
المراجع
  1. صحيح مسلم