عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت له اقتصاصًا، وقد وَعَيتُ عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضًا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض، قالوا: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، دنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يَهْبِلْنَ، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العُلْقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطَّل السُّلمي ثم الذَّكْواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، قالت: فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول، قال عروة: أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده، فيقره ويستمعه ويستوشيه، وقال عروة أيضا: لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت، ومِسْطَح بن أُثَاثة، وحَمْنَة بنت جحش، في ناسٍ آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة، كما قال الله تعالى، وإن كبر ذلك يقال له: عبد الله بن أبي ابن سلول، قال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء.
قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم، ثم يقول: «كيف تيكم»، ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع، وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، قالت: وأمرُنا أمرُ العرب الأول في البرية قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي ابنة أبي رُهْم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتَسُبِّين رجلًا شهد بدرًا؟ فقالت: أي هَنْتَاه، ولم تسمعي ما قال؟ قالت: وقلت: ما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، قالت: فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم، ثم قال: «كيف تيكم»، فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: يا أمتاه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا كثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله، أولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلك، ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: «أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟». قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمرًا قطُّ أغمصه غير أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي، وهو على المنبر، فقال: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما يدخل على أهلي إلا معي». قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام رجل من الخزرج، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فثار الحيان الأوس، والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، قالت: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم، حتى سكتوا وسكت، قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوما، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي، فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أما بعد، يا عائشة، إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة، فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه»، قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال: فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال: قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: وأنا جارية حديثة السن: لا أقرأ من القرآن كثيرا: إني والله لقد علمت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18] ثم تحولت واضطجعت على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مُبَرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحَاء، حتى إنه ليتحدَّر منه من العرق مثل الجُمَان، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: «يا عائشة، أما الله فقد برأك». قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله عز وجل، قالت: وأنزل الله تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} العشر الآيات، ثم أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق: وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: {ولا يأتل أولو الفضل منكم} إلى قوله {غفور رحيم} [البقرة: 173]، قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: «ماذا علمت، أو رأيت». فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، قالت: وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت، فيمن هلك قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط، ثم قال عروة، قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله.
[صحيح]
-
[متفق عليه]
قال محمد بن مسلم شهاب الزهري التابعي الجليل: حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهم من كبار التابعين، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، والأربعة كلهم حدثني بالإفراد قطعة من حديثها، وبعضهم كان أحفظ لحديثها من بعض، وأثبت له سياقًا، وقد حفظت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، فجميع الحديث عن مجموعهم لا أن جميعه عن كل واحد منهم، وبعض حديثهم يُصدِّق بعضًا، وإن كان بعضهم أحفظَ له من بعض، وقد جاء ذكر هذه الحادثة في سورة النور. قالوا: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسافر أقرع بين زوجاته، فيكون تحديد الزوجة التي سترافقه بالقرعة، تطييبًا لقلوبهن، فأي واحدة منهن خرج سهمها أخذها النبي عليه الصلاة والسلام وسافرت معه، فأقرع بيننا عليه الصلاة والسلام في غزوة المُرَيسيع، في السنة السادسة، فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزِلَ الأمر بالحجاب، وكنت أُحمل في الهودج الذي تُحمل فيه النساء، فسرنا حتى إذا انتهى عليه الصلاة والسلام من غزوته شرع في العودة، واقتربنا من المدينة حال رجوعنا، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً بالاستعداد للرحيل، فقمتُ فمشيت لقضاء حاجتي منفردةً، حتى جاوزت الجيش فلما انتهيت من شأني الذي مشيت له رجعت إلى الموضع الذي نزلت به، فلمست صدري فإذا بقلادة لي من خَرَزٍ يمانيٍّ قد انقطعت وضاعت، فرجعت إلى الموضع الذي ذهبتُ إليه، فبحثت عن قلادتي فأخرني طلبه، وجاء القوم الذين كانوا يحملون هودجي، وهو المحمل الذي يستر المرأة في السفر، فحملوه ووضعوه على الجمل الذي كنت أركبه، وهم يظنون أني بداخل الهودج، وكان النساء يومئذ خفاف، لم يكثر لحمهن، لأنهن كنَّ يأكلن القليل من الطعام، فلم ينكر القوم أن الهودج خفيف حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية صغيرة السن لم تبلغ حينئذٍ خمس عشرة سنة، فأثاروا الجمل وساروا، ووجدت عقدي لكن بعدما ذهب الجيش ومضى، فذهبت لأماكنهم فلم أجد منهم أحدًا، فقصدت منزلي وعلمت أنهم سيفقدونني ويرجعون إليّ، وبينما أنا جالسة في منزلي نعست فنمت، من شدة ما اعتراها من الغم، أو أن الله تعالى ألقى عليها النوم لطفًا منه بها لتستريح من وحشة الانفراد في البرية بالليل، وكان صفوان بن المعطَّل السُّلَمي ثم الذكواني يتخلف وراء الجيش، فمن سقط له شيء من متاعه كالقَدَح والسوط أتاه به، فأصبح عند منزلي فرأى شخصَ إنسانٍ نائم، فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل نزول الأمر بالحجاب، فاستيقظت من نومي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فغطيت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، لما شق عليه من ذلك، ونزل حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ليسهل الركوب عليها، فلا تحتاج إلى مساعد، فقمت إليها فركبتها، فانطلق صفوان يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش، وذلك في شدَّة الحَرِّ، في وسط الظهيرة حين بلغت الشمس منتهاها من الارتفاع، وكان الجيش قد نزل ووصل إلى المنزل المطلوب. قالت عائشة رضي الله عنها: فهلك من هلك في أمر الإفك، وكان الذي باشر معظمه عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، قال عروة بن الزبير أُخبرت أن حديث الإفك كان ينتشر ويُتحدث به عند عبد الله بن أبي، فيصدقه ويستمع إليه ولا ينكره ولا ينهى عنه من يقوله، وكان يستخرجه بالبحث عنه حتى يفشيه، وقال عروة بن الزبير: لم يُذكر اسم أحد من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت الشاعر ومِسْطَح بن أُثاثة وحَمْنَة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش، في ناس آخرين لا أعلمهم بأسمائهم إلا أنهم عصبة أي عشرة أو ما فوقها إلى الأربعين، كما قال الله تعالى في سورة النور: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم}، وإن متولي معظمه يقال له: عبد الله بن أبي ابن سلول، قال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال: فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء قالت عائشة رضي الله عنها: رجعنا إلى المدينة فمرضت حين رجوعنا مدة شهر، والناس يخوضون في قول أصحاب الإفك، وأنا لا أحس بشيء من قولهم ولم أسمعه، ولكن يشككني أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أراه عندما أمرض، بل كان عليه الصلاة والسلام يدخل عليَّ ويقول: كيف حالكِ؟ ثم يخرج، فكان ذلك يشككني ولم أشعر بشيءٍ مما يقولون، حتى أفقت من المرض، فخرجت مع أم مسطح جهة المناصع، وهو موضع خارج المدينة، وكان موضع قضاء حاجتنا، وكنا نخرج له في الليل فقط، قبل أن نتخذ الأماكن المخصَّصة لقضاء الحاجة قريبةً من بيوتنا، وأمرُنا كأمر العرب الأوائل، في قضاء الحاجة في البرية خارج المدينة، وكنا نتأذى إذا وضعنا أماكن قضاء الحاجة داخل بيوتنا، قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي سلمى ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب رضي الله عنه، وبعد أن انتهينا من شأننا، وعدنا باتجاه بيتي، تعثرت أم مسطح في كسائها، فقالت حين تعثَّرت: هلك مسطح، قلت: هل تسبين رجلًا شهد بدرًا؟ قالت: يا هذه، ألم تسمعي ما قال مسطح؟ قلت لها: وماذا قال؟ فأخبرتني بما يقول أهل الإفك، فازددت مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: كيف حالكم؟ فقلت له: هل تسمح لي أن أزور أبوي؟ وكنت أريد أن أتأكد من الخبر الذي سمعته منهما، فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتيتهما فقلت لأمي: يا أماه، ما الذي يتحدث الناس به؟ قالت: يا ابنتي هوِّني عليك، فوالله قلما كانت امرأة حسنة جميلة عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا أكثرْنَ عليها القول في عيبها ونقصها، والمراد بعض أتباع ضرائرها كحمنة بنت جحش أخت زينب أو نساء غيرها، قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت متعجبة من ذلك: سبحان الله، وقد تحدث الناس بذلك، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا ينقطع الدمع من عيني، ولا تغمض لي عين فأنام؛ لأن الهموم داعية للسهر وسيلان الدموع، ثم أصبحت أبكي. قالت: ودعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأسامة بن زيد حين طال لبث نزول الوحي، يسألهما عن ذلك ويستشيرهما في فراق أهله، ولم تقل في فراقي لكراهتها التصريح بإضافة الفراق إليها، قالت: فأما أسامة فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال أسامة: هم أهلك العفائف ولا نعلم عليهم إلا خيرًا، وأما علي فقال: يا رسول الله النساء غيرها كثير، و لم يضيق الله عليك بألا تتزوج، واسأل الجارية بريرة فتخبرك بما تعلم منها، ولعلها كانت تخدم عائشة رضي الله عنها حينئذ قبل شرائها أو بعده، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: يا بريرة هل رأيت فيها شيئًا من جنس ما قيل فيها؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها شيئًا أبدًا أعيبه عليها إلا أنها جارية صغيرة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الشاة أو ما يألف البيوت: شاةً أو غيرَها، فتأكله، وهذا دليل على أنه لا عيب فيها سوى هذه الصفة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين، مَن يقوم بعذري ولا يلومني إن كافأته على قبيح فعله، أو من ينصرني من رجل قد وصل أذاه إلى أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا صفوان بن المعطَّل، وما علمت عليه إلا خيرًا، وما يدخل على أهلي إلا وهو معي، فقام سعد بن معاذ فقال: أنا يا رسول الله أعذرك منه، فإن كان من قبيلتنا الأوس قتلته، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا ما أمرتنا فيه، وكان عبد الله بن أُبيّ خزرجيًّا، فقام رجلٌ من الخزرج، وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا، لم يتقدم منه ما يتعلق بالوقوف مع قريبه بالباطل، ولم تغمصه في دينه، ولكن كان بين الحيين مشاحنة قبل الإسلام، ثم زالت وبقي بعض آثارها، فهو من الصالحين ولكن أخذته الحَمِيَّةُ من مقالة سعد بن معاذ فأغضبته، فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لن تقتله، ولا تقدر على قتله؛ لأنا نمنعه منه، ولو كان من الأوس ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حُضير وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتله، ولو كان من الخزرج إذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وليست لكم قدرة على منعنا، فإنك منافق وتجادل عن المنافقين، ولم يرد نفاق الكفر، بل إظهاره الود للمنافقين، فنهض الأوس والخزرج بعضهم إلى بعض من الغضب حتى قاربوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على المنبر، فلا يزال عليه الصلاة والسلام يهدِّئُهم حتى سكتوا وسكت عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة: فبكيت يومي ذلك كله لا تنقطع الدموع من عيني ولا تغمض لي عين بالنوم، وأصبح أبواي أبو بكر وأم رومان عندي، وقد بكيت ليلتين ويومًا بكاءً مستمرًّا شديدًا، حتى أني لأظن أن البكاء سيشق كبدي، فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليَّ امرأة من الأنصار لم تُسَمَّ، فأذنت لها فجلست تبكي معي تفجعًا لما نزل بي، فبينما نحن كذلك، دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قولهم الإفك، وقد مكث عليه الصلاة والسلام شهرًا لا يوحى إليه في شأني هذا بشيء، فتشهد النبي صلى الله عليه وسلم عندما جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة وصلني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة مما نسبوه إليك، فسيثبت الله عز وجل براءتك بوحي ينزله، وإن كان وقع منك ذنب فاستغفري الله وتوبي إليه من هذا الذنب، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب منه، فإن الله يتوب عليه، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من كلامه انقطع دمعي حتى ما أجد منه قطرة، فقلت لأبي: رُدَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما قاله لي، قال: والله لا أعلم ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: رُدِّي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: لا أعلم ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: فقلت وأنا جارية صغيرة السن لا أقرأ من القرآن كثيرًا، وهذا تمهيد لعذرها في عدم استحضارها اسم يعقوب عليه السلام، قالت: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم حديث الإفك حتى ثبت في أنفسكم وصدَّقتم به، وإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة لن تصدقوني، وإن اعترفت لكم بأني لست بريئة، والله يعلم أني بريئة ستصدقونني، والله لا أجد لكم مثلًا إلا قول أبي يوسف، إذ قال: {فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون}، ثم انقلبتُ فرقدتُ على فراشي، وأنا وقتها أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرِّئُني، ولكن والله ما كنت أظن أن الله سينزل في أمري وحيًا وقرآنًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر وأصغر من أن يتكلم الله فيَّ بشيءٍ، ولكن كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يثبت الله براءتي بها، قالت: فوالله ما فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت من الذين كانوا حاضرين حينئذٍ حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من العرق من شدة الوحي، حتى إنه لينزل منه مثل اللؤلؤ من العرق وهو في يوم بارد، من ثقل القول الذي ينزل عليه، فلما كُشِف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي كان يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها: يا عائشة أما إن الله عز وجل قد برَّأكِ بالقرآن مما قاله أهل الإفك فيك، فقالت أمي أم رومان: قُومِي إليه صلى الله عليه وسلم لأجل ما بشرك به، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي، وأنزل الله عز وجل {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه} العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله تعالى هذه الآيات في براءتي وأقيم الحد على من أقيم عليه، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لأنه ابن خالته ولفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال في عائشة، فأنزل الله {ولا يأتل} أي لا يحلف {أولو الفضل منكم} أي أصحاب التقدم في الدين {والسعة} في المال، كأبي بكر رضي الله عنه {أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله})، صفات لموصوف واحد وهو مسطح لأنه كان مسكينًا مهاجرًا بدريًا {وليعفوا وليصفحوا} عنهم خوضهم في أمر عائشة {ألا تحبون} خطاب لأبي بكر {أن يغفر الله لكم} على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم {والله غفور رحيم} قال أبو بكر لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فأعاد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه قبل، وحلف ألا ينزعها منه أبدًا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها عن أمري، فقال: يا زينب ماذا علمت على عائشة أو رأيت منها؟ فقالت يا رسول الله أحفظ سمعي من أن أقول سمعت ولم أسمع، و أحفظ بصري من أن أقول أبصرت ولم أبصر، ما علمت عليها إلا خيًرا، قالت عائشة: وزينب هي التي كانت تطلب من العلو والارتفاع والحظوة عند النبي صلى الله عليه وسلم ما أطلب، أو تعتقد أن لها مثل الذي لي عنده، من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفظها الله بالورع أن تقول ما يقول أهل الإفك، وجعلت أختها حمنة تحارب لأختها زينب، وتحكي مقالة أهل الإفك لتخفض منزلة عائشة وتعلي منزلة أختها زينب، فحُدَّت فيمن حُدَّ من أصحاب الإفك أو أثمت مع من أثم. قال ابن شهاب: فهذا الذي وصلني من حديث هؤلاء الجماعة، ثم قال عروة، قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل فيه ما قيل من الإفك -وهو صفوان بن المعطل- ليقول متعجبًا مما نسبوه إليه: سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط، أي سترها وهو كناية عن عدم الجماع، قالت عائشة: ثم قتل صفوان بعد ذلك شهيدًا في سبيل الله.