عن قَبِيصة بن مُخَارق الهلالي قال: تحمَّلت حَمَالةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها" ثم قال: "يا قَبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحَلَّت له المسألة حتى يُصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قِوَامًا من عيش -أو قال سدادًا من عيش-، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجَا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش -أو قال سدادًا من عيش-، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتًا يأكلها صاحبها سحتًا".
[صحيح] - [رواه مسلم]

الشرح

كانت العرب إذا وقعت بينهم ثائرة بين قبيلتين وحصل بسببها قتلى في الطرفين قام أحدهم فتبرع بالتزام الديات للطرفين، حتى ترتفع تلك الثائرة، وتسمى الحمالة، ولا شك أن هذا من مكارم الأخلاق، ولا يصدر مثله إلا عن سادات الناس وخيارهم، وكانت العرب لكرمها إذا علمت بأن أحدًا تحمَّل حَمالةً بادروا إلى معونته، وأعطوه حتى تبرأ به ذمته مما التزمه بسبب الصلح، ولو سأل المتحمِّل في تلك الحمالة لم يُعَدَّ ذلك نقصًا، بل شرفا وفخرا، ولذلك سأل هذا الصحابي رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حمالته التي تحملها على عاداتهم، فأجابه صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بحكم المعونة على المَكرُمة، ووعده النبي صلى الله عليه وسلم بمالٍ من الصدقة؛ لأنه غارم من جملة الغارمين المذكورين في آية الصدقات. ثم بيَّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة أنواع: الأول: رجل تحمل حمالة، فجاز له سؤال الناس حتى ينال من المال ما يقضي به تلك الحمالة، ثم يترك مسألة الناس؛ لانقضاء سبب حل مسألتهم، وهو تحمله الحمالة، فلما أصاب حاجته ارتفعت الإباحة، فيجب أن يمسك عنها. والثاني: رجل أصابته آفة اجتاحت ماله وأتلفته إتلافًا ظاهرًا، كالسيل والمطر والحرق والسرق وغلبة العدو، وغير ذلك مما يكون إتلافه للمال ظاهرا، فتحل له المسألة حتى يجد ما يقوم به العيش. والثالث: رجل أصابه فقرٌ، فيقوم ثلاثةٌ من عقلاء قومه فيقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة، ولعله عبَّر به عما يشترط في المخبر والشاهد من الأمور التي توجب الثقة بأقوالهم، ويكون الموصوف بها عدلًا مرضيًّا. وقوله: من قومه؛ لأنهم أعلم بحقيقة أمره، ولم يحتج فيمن أصابته الجائحة إلى مثل هذا؛ لظهور أمر الجائحة، فأما الفاقة فتخفى. ما سوى هؤلاء الثلاثة من المسألة حرام، يأكلها صاحبها وهي حرامٌ عليه.

الترجمة:
عرض الترجمات

معاني الكلمات

حمالة:
الحمال: ما يَتَحمّله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة، مثل أن تقع حرب بين فريقين تُسفك فيهما الدّماء، فيدخل بينهم رجل يتحمّل ديات القتلى ليٌصلح ذات البين، والتحمل: أن يحملها عنهم على نفسه.
أقم:
انتظر.
يصيبها:
يصيب ويأخذ ما تحمّله من الحمالة.
ثم يمسك:
يكف عن المسألة.
جائحة:
آفة تُهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مبيرة: جائحة.
قِوامًا:
ما يغني وتُسد به الحاجة، ومثله: سدادًا.
ذوي الحجا:
أصحاب العقول السليمة.
فاقة:
حاجة وفقر.
سُحت:
حرام لا يحِل، سمي بذلك؛ لأنه يسْحَت البركة، أي: يذهبها.

من فوائد الحديث

  1. حد إباحة المسألة بزوال الموجِب لها، ثم عَوده إلى الأصل السابق الممنوع.
  2. بيان تحريم مسألة الناس لغير هؤلاء المذكورين في هذا الحديث.
  3. بيان بعض مكارم الأخلاق في الجاهلية.
  4. بيان أن من تحمل حمالة يستحق الصدقة، وهو معنى الغارم المذكور في آية الصدقة.
  5. جواز نقل صدقة المال من بلدة إلى أخرى، على خلاف في ذلك.
  6. الحد الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي يكون بها قوام العيش، وسداد الخلة، وذلك يعتبر في كل إنسان بقدر حاله ومعيشته، وليس فيه حد معلوم، يحمل عليه الناس كلهم مع اختلاف أحوالهم.
  7. من لم يقدر على كسبٍ جاز له السؤال بقدر قوته.
المراجع
  1. صحيح مسلم (2/ 722) (1044)، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 87)، البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (20/ 15)، النهاية في غريب الحديث والأثر (233) (171) (721) (419).