عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالاَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذَاتَ اليَمِينِ»، فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ، فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتِ القَصْوَاءُ، خَلَأَتِ القَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتِ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ»، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الحُدَيْبِيَةِ، عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ المَاءِ، يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ العُوذُ المَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ البَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ: فَإِنْ شَاؤُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ»، فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ العَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ بِبَظْرِ اللَّاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ المِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟ وَكَانَ المُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا المَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ»، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا فُلاَنٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ البُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ» فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ البُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ»، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ» قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ، وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» -قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»- فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ»، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ المُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ»، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذَنْ لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَجِزْهُ لِي»، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: «بَلَى فَافْعَلْ»، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟ قَالَ: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ؟»، قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ»، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] حَتَّى بَلَغَ بِعِصَمِ الكَوَافِرِ فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: العَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى المَدِينَةَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ: «لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا» فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ، قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ البَحْرِ قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، لَمَّا أَرْسَلَ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] حَتَّى بَلَغَ {الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ البَيْتِ.
[صحيح] - [رواه البخاري]

الشرح

هذه قصة صُلح الحُديبية، روى معمر قال: أخبرني الزهري، وسببُ ذكر الراويين في أول هذا الحديث الطويل أنه سيأتي ذكرهما في أثناء الحديث، فيُعرف بذلك ما هو موقعهم من هذه القصة، قال الزهري: أخبرني عروة بن الزبير بن العوام عن اثنين من شيوخه: المسور بن مخرمة رضي الله عنه ومروان بن الحكم، يُصدِّقُ كلُّ واحدٍ من المسور ومروان حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة في زمن الحديبية، يوم الاثنين لهلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة في بضع عشرة مائة، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث بُسرَ بنَ سفيان عينًا أي جاسوسًا لخبر قريش، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم، وهو موضع قريب من مكة، معه خيل من قريش في مقدمة الجيش، فخذوا ذات اليمين وهي بين ظهري الحمض في طريق تخرجه على ثنية المِرَار مهبط الحديبية من أسفل مكة، وهي معروفة إلى الآن لأهل مكة، قال ابن هشام: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش غبار الجيش الأسود قد خالفوا عن طريقهم ركض خالد راجعًا إلى قريش لينذرهم بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بثنية المرار التي يهبط منها على قريش بركت به عليه الصلاة والسلام راحلته فقال الناس: حل حل، كلمة زجر للراحلة؛ لحَمْلها على السير، فتمادت في البروك فلم تبرح من مكانها، فقالوا: امتنعت القصواء وتصعَّبت، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبر أن القصواء حبسها الله عن دخول مكة، كما حبس الفيل عن مكة، مع الفرق الواضح، ولكن التشبيه بين الناقة والفيل فقط؛ ولأنهم لو دخلوا مكة على تلك الهيئة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم ما يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال، ثم قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لا تسألني قريش خصلة يكفون بسببها عن القتال في الحرم تعظيمًا له إلا أجبتهم إليها، وإن كان في ذلك تحمل مشقة، ثم زجر عليه الصلاة والسلام الناقة فقامت، فرجع عليه الصلاة والسلام حتى نزل بأقصى الحديبية على حفرة فيها القليل من الماء يأخذه الناس قليلًا قليلًا، فلم يتركوه الناس حتى لم يبقوا منه شيئًا، لعطشهم، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من جعبته التي فيها النَّبل، ثم أمرهم أن يجعلوا السهم في الثمد، فوالله ما زال يفور ويرتفع لهم بالري حتى رجعوا رِوَاءً، فبينما هم كذلك إذ جاء الصحابي بديل بن ورقاء الخزاعي مع جماعة من قومه من خزاعة، وكان بديل والنفر الذين معه موضع سر النبي عليه الصلاة والسلام وأمانته من أهل تهامة، فقال بديل: إني تركت قبيلتي كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا إلى عيون وبئار الحديبية، فقد كان بالحديبية مياه كثيرة، وأن قريشًا سبقوا إلى النزول عليها، ولذا عطش المسلمون حتى نزلوا على الثمد، ومعهم النوق الحديثات النتاج ذات اللبن التي معها أطفالها، أي أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه، وقيل أنهم خرجوا معهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام وليكون أدعى إلى عدم الفرار، وهم مقاتلوك ومانعوك عن البيت الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن لم نأت لقتال أحد، ولكننا أتينا معتمرين، وقد أضعفت الحرب قوة قريش وضرتهم، فإن أرادوا جعلت بيني وبينهم مدة معينة أترك قتالهم فيها، ويخلوا بيني وبين الناس من كفار العرب وغيرهم، فإذا ظهرت إن أرادوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس من طاعتي فعلوا، وإذا لم أظهر فقد استراحوا من جهد القتال، والتردد في قوله فإن أظهر ليس شكًّا في وعد الله أنه سينصره ويظهره، بل على طريق التنزل وفرض الأمر على ما زعم الخصم، وإن امتنعوا عن قبول الخطة فوالذي نفسي بيده سأقاتلهم على أمري هذا حتى تنفصل رقبتي وأموت، وليمضين الله أمره في نصر دينه. فقال بديل: سأخبرهم بما تقول، فانطلق حتى جاء إلى قريش قال: إنا جئناكم من هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم وسمعناه يقول قولًا، فإن شئتم أن نخبركم به فعلنا، فقال سفهاؤهم ضعاف العقل: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذو الرأي منهم: قل لنا ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: يا قوم ألست لكم مثل الأب في الشفقة لولده؟ قالوا: نعم، قال: ألستم مثل الابن في النصح لوالده؟ قالوا: نعم، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا نتهمك، قال: ألستم تعلمون أني دعوت أهل عكاظ للقتال نصرة لكم، فلما امتنعوا أو عجزوا جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني، قالوا: نعم، قال: فإن هذا يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقد عرض عليكم خصلة خير وصلاح وإنصاف، فاقبلوها واتركوني أجيء إليه، قالوا: اذهب إليه، فأتاه عليه الصلاة والسلام عروة، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعروة نحوًا من قوله لبديل السابق. فقال عروة بن مسعود عند قوله سأقاتلهم: يا محمد أخبرني إذا استهلكت قومك بالكلية هل سمعت بأحد من العرب أهلك أهله قبلك، وإن تكن الأخرى أي: وإن تكن الدولة لقومك فلا يخفى ما يفعلون بكم، وإني والله لا أرى أعيان الناس معك، ولكني أرى أخلاطًا من الناس من قبائل شتى، حقيقًا بأن يفروا ويتركوك؛ لأن العادة جرت أن الجيوش المُجمَّعة لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كان من قبيلة واحدة، فإنهم يأنفون الفرار في العادة، وما علم عروة أن مودة الإسلام أبلغ من مودة القرابة، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: مص بظر اللات التي تعبدونها، أنحن نفر ونتركه؟ وقد كانت عادة العرب الشتم بذلك، تقول: ليمص بظر أمه، فاستعار ذلك أبو بكر رضي الله عنه في اللات لتعظيمهم إياه، فقصد المبالغة في سب عروة، بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبته إلى الفرار، فسأل عروة عن المتكلم، فقالوا: أبو بكر، فقال: والذي نفسي بيده لولا نعمةٌ ومنةٌ كانت لك عندي لم أكافئك بها لرددت عليك. قال: وجعل عروة يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته الشريفة، على عادة العرب مِن تناول الرجل لحية من يكلمه لا سيما عند الملاطفة، وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقفًا على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سيف قصدًا لحراسته، وعلى المغيرة المغفر أي الخوذة ليستخفي من عروة عمه، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده إجلًالًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا بنعل السيف، وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها، وقال له: أَبْعِدْ يَدَك عن لحية النبي صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه فقال: من هذا الذي يضرب يدي؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال عروة مخاطبًا المغيرة: يا غُدَر، مبالغةً في وصفه بالغدر، ألستُ أسعى في دفع شرِّ خيانتك ببذل المال، وكان المغيرة قبل إسلامه صحب قومًا في الجاهلية من ثقيف من بني مالك، لما خرجوا زائرين المقوقس بمصر، فأحسن إليهم وترك المغيرة؛ لأنه صحبهم وليس من بني مالك، وهو الوحيد من بينهم، فحصلت له الغيرة منهم، فلما كانوا بالطريق شربوا الخمر فلما سكروا وناموا غدر بهم فقتلهم جميعًا وأخذ أموالهم، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أسلم قبل ذلك، فلما بلغ ثقيفًا فِعْلُ المغيرة تَدَاعوا للقتال، فسعى عروة عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسًا، واصطلحوا، فهذا هو سبب قوله يا غدر، فلم جاء المغيرة إلى المدينة أسلم، فقال له أبو بكر: ما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قال: قتلتهم وجئت بأسلابهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتُخمَّس أو ليري رأيه فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أقبل الإسلام، أما المال فلا أتعرض له؛ لكونه أخذه غدرًا؛ لأن أموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا يحل أخذها بالغدر عند الأمن، فإذا كان الإنسان مصاحبا لهم فقد أمن كل واحد منهما صاحبه، فسفك الدماء وأخذ الأموال عند ذلك غدر، وإنما تحل أموالهم بالمحاربة والمغالبة. وجعل عروة يلحظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة -وهي ما يصعد من الصدر إلى الفم- إلا وقعت في كفِّ رجلٍ منهم، فدلك بالنخامة وجهه وجلده تبركًا بآثاره، وإذا أمرهم بأمر أسرعوا إلى فعله، وإذا توضأ كانوا يتقاتلون على الماء الذي توضأ به أو على ما يجتمع من القطرات وما يسيل من الماء الذي باشر أعضاءه الشريفة عند الوضوء، وإذا تكلم عليه الصلاة والسلام خفضوا أصواتهم عنده، وما يتأملونه ولا يديمون النظر إليه تعظيمًا له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: يا قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وهو لقب لكل من ملك الروم، وكسرى اسم لكل من ملك الفرس، والنجاشي لقب من ملك الحبشة، وخص الثلاثة بالذكر لأنهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان، والله ما رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظِّمُ أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم محمدًا، والله ما يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم عليه الصلاة والسلام خفضوا أصواتهم عنده إجلًالًا له وتوقيرًا، وما يديمون إليه النظر تعظيمًا له، وإنه عليه الصلاة والسلام قد عرض عليكم خصلة خير وصلاح فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: اتركوني اذهب إليه، فتركوه، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون الإبل والبقر، فأثيروها وأطلقوها له، فأثارت له واستقبله الناس وهم يُلَبُّون بالعمرة، فلما رأى الكناني ذلك المذكور من البدن واستقبال الناس له بالتلبية قال متعجبًا: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُمنعوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال لهم: رأيت البدن قد قلدت أي علق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي، وأشعرت أي طعن في سنامها بحيث سال دمها ليكون علامة للهدي أيضًا، فلا يصدون عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مِكْرَز بن حفص، فقال: اتركوني أذهبْ إليه، فتركوه، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز، وهو رجل فاجر أي غادر؛ لأنه كان مشهورًا بالغدر، ولم يصدر منه في قصة الحديبية فجور ظاهر، فصار مكرز يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يجيبه، فبينما هو يكلمه عليه الصلاة والسلام إذ جاء سهيل بن عمرو، فلما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد سهل لكم من أمركم، وهذا من باب التفاؤل، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل الحسن، فجاء سهيل بن عمرو فقال: اكتب بيننا وبينكم كتابًا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب وهو علي بن أبي طالب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، وكان عليه الصلاة والسلام يكتب كذلك في بدء الإسلام كما كانوا يكتبونها في الجاهلية، فلما نزلت آية النمل كتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: اكتب باسمك اللهم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله، قال الزهري: وإجابته لسؤال سهيل حيث قال: اكتب باسمك اللهم، واكتب محمد بن عبد الله لقوله عليه الصلاة والسلام السابق: لا تسألني قريش خصلة يعظمون فيها حرمات الله ويكفون بها عن القتال في الحرم إلا أجبتهم إليها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تُخَلُّوا بيننا وبين البيت العتيق فنطوف به، فقال سهيل: والله لا نخلي بينك وبين البيت الحرام، حتى لا تتحدث العرب أنا أُخِذْنا قهرًا، ولكن التخلية من العام المقبل، فكتب عليٌّ ذلك، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون متعجبون: سبحان الله، كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلما، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وكان حُبِس حين أسلم وعُذِّب، فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين يمشي مشي المقيَّد المُثْقَل، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال أبوه سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نفرغ من كتابة الكتاب بعد، قال سهيل: فوالله إذن لا أصالحك على شيء أبدًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: استثنِ لي هذا، فلا أرده إليك، قال سهيل: ما أنا بمجيز ذلك لك، قال عليه الصلاة والسلام: بلى فافعل، قال سهيل: ما أنا بفاعل، قال مكرز وكان ممن أقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح: بل قد أجزناه لك، قال أبو جندل: يا معشر المسلمين، أُرْجَع إلى المشركين وقد جئت مسلمًا؟ ألا ترون ما قد لقيت، وكان قد عذب عذابًا شديدًا في الله، وقوله أرجع إلى المشركين مع قول مكرز أنا أجزناه لك هو لأن المتصدي لعقد المهادنة هو سهيل لا مكرز، فالاعتبار بقول المباشر لا بقول مكرز. فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألستَ نبيَّ الله حقًّا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نقبل الحالة الدَّنِيَّة الخبيثة في ديننا إذن؟ إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، فيه تنبيه لعمر رضي الله عنه على إزالة ما حصل عنده من القلق، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك إلا لأمرٍ أطلعه الله عليه، وأنه لم يفعل ذلك إلا بوحي من الله، قال عمر رضي الله عنه قلت له عليه الصلاة والسلام: أليس قد حدثتنا أنا سنأتي البيت فنطوف به، وكان عليه الصلاة والسلام رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت، فلما رأوا تأخيرَ ذلك شقَّ عليهم، قال عليه الصلاة والسلام: بلى، فهل أخبرتك أنا سنأتيه هذا العام؟ قال عمر: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال عمر: فجئت إلى أبي بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقًّا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الخصلة الخبيثة في ديننا حينئذ؟ قال أبو بكر مخاطبًا عمر رضي الله عنهما: أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بأمره ولا تخالفه كما يتمسك المرء بركاب الفارس فلا يفارقه، فوالله إنه على الحق، قال عمر: قلت: أليس كان عليه الصلاة والسلام: يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال أبو بكر: بلى، فهل أخبرك عليه الصلاة والسلام أنك ستأتيه هذا العام؟ قال عمر: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، وفي ذلك دلالة على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه، قال الزهري قال عمر رضي الله عنه: فعملت لذلك التوقف في الامتثال والإلحاح في السؤال أعمالًا صالحةً، لعلها تُكفر عنها، ولم يكن هذا شكًا منه في الدين، بل ليقف على الحكمة في القضية، وتنكشف عنه الشبهة، وطلبًا لإذلال الكفار، كما عرف من قوته في نصرة الدين. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا الهدي ثم احلقوا رؤوسكم، قال: فوالله ما قام منهم رجل؛ رجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ليتم لهم قضاء نسكهم، حتى قال عليه السلام لهم ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحدٌ دخل عليه الصلاة والسلام على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس من كونهم لم يفعلوا ما أمرهم به، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ فأشارت عليه أن يتحلل؛ لأنه القدوة والأسوة، فإذا رأوا فعله علموا أن الأمر حتم ولازم، فقالت: اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتنادي من يحلق لك ليحلق لك، فخرج عليه الصلاة والسلام ولم يكلم أحدًا منهم حتى نحر بدنه ونادى حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا هديهم، ممتثلين ما أمرهم به، إذ لم تبق بعد ذلك غايةٌ تُنْتَظر، وجعل بعضهم يحلق لبعض حتى كادوا يقتلون بعضهم من شدة الازدحام والغيظ، وفيه فضيلة أم سلمة ووفور عقلها. ثم جاءه عليه الصلاة والسلام نساء مؤمنات بعد ذلك في أثناء مدة الصلح، وكان الصلح في الرجال، وليس فيه بيان حال النساء، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} [الممتحنة: 10] أي فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن، حتى بلغ {بعصم الكوافر}، والمراد نهي المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات، فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين من نساءه كانتا له في الشرك لقوله تعالى في الآية: {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} وقد كان ذلك جائزًا في ابتداء الإسلام، فواحدة منهما تزوجها معاوية بن أبي سفيان، والأخرى تزوجها صفوان بن أمية، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، وهو من قريش، وهو مسلم، فأرسلت قريش رجلين؛ ليأخذوه، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا يوم الحديبية أن ترد إلينا من جاء منا وإن كان على دينك، وسألوه أن يردَّ إليهم أبا بصير كما اتفقوا في الصلح، فسلَّمه عليه الصلاة والسلام الرجلين وفاءً بالعهد، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكلون تمرًا، فقال أبو بصير لواحدٍ منهما: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا، فأخرجه صاحبه الآخر من غمده فقال: نعم، والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أعطني أنظر إليه، فأعطاه له فضربه أبو بصير بالسيف حتى مات، وهرب الرجل الآخر حتى جاء المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه: لقد رأى هذا خوفًا، فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل أبو بصير والله صاحبي، وسيقتلني إلم تردوه عني، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، والله قد أوفى الله ذمَّتَك، قد أرجعتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مسعر حرب، تعجبًا من إقدامه في الحرب والإيقاد لنارها وسرعة النهوض لها، لو كان له أحد ينصره لإسعار الحرب لأثارها، فلما سمع أبو بصير ذلك عرف أنه عليه الصلاة والسلام سيرجعه إليهم إذا بقي، فخرج حتى أتى ساحل البحر على طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام، ويتخلص منهم أبو جندل بن سهيل أي من أبيه وأهله من مكة، فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، وكرهوا أن يقدموا المدينة في مدة الهدنة خشية أن يُعادوا إلى المشركين، فلا يسمعون بخبر قافلةٍ لقريشٍ خرجت من مكة إلى الشام إلا وقفوا لها في طريقها، ومنعوهم المسير، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، لأنهم لا يشملهم العهد والهدنة، فإنما كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بمكة، فأرسلت قريش أبا سفيان بن حرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول له: سألناك بالله وبحق القرابة أن ترسل إلى أبي بصير وأصحابه بالامتناع عن إيذاء قريش، فمن أتاه منهم مسلمًا فهو آمن من الرد إلى قريش، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعلم الذين كانوا أشاروا بأن لا يُسلَّم أبا جندل إلى أبيه أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم خير مما كرهوا، فأنزل الله تعالى {وهو الذي كف أيديهم عنكم} أي أيدي كفار مكة {وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24] أي أظهركم عليهم، حتى بلغ {الحمية حمية الجاهلية} [الفتح: 26] أي التي تمنع الإذعان للحق، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين الوصول إلى البيت؛ لأداء العمرة تلك السنة.

الترجمة:
عرض الترجمات

معاني الكلمات

قترة الجيش:
غبرة الجيش، وخلَّفتهم، أي جاءت بعدهم.
خلأت القصواء:
الخلاء للنوق كالإلحاح للجِمَال، والحِرَان للدواب، وهو التلكُّؤ.
زجرها:
حثها وحملها على السرعة.
فوثبت:
فقامت.
ثمد:
الماء القليل.
يَتَبَرضه:
يأخذونه قليلا قليلا.
نزحوه:
أخذوا ماءها.
نهكتهم:
أتعبتهم.
جَمَّوا:
استراحوا وكثروا.
سالفتي:
عنقي.
بلَّحوا:
عجزوا.
أي محمد:
يا محمد.
أوباشًا:
أخلاطًا.
امصُصْ بِبَظْر اللَّات:
ارضع فرج الصنم الذي تعبدونه، واسمه اللات.
ضُغْطة:
كُرْهًا.
ذعرًا:
خوفًا.
مِسْعَر حرب:
مُوقِد ومُشْعِل للحرب.
سِيف البحر:
الشاطئ.

من فوائد الحديث

  1. اعتمار النبي صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج، فإنه خرج إليها في ذي القعدة.
  2. الإحرام بالعمرة من الميقات أفضل، كما أن الإحرام بالحج كذلك، فإنه أحرم بهما من ذي الحليفة، وبينها وبين المدينة ميل أو نحوه.
  3. سوق الهدي مسنون في العمرة المفردة، كما هو مسنون في القران، ومسنون مطلقًا من غير نسك.
  4. إشعار الهدي سنة، وليس مثلةً منهيًّا عنها.
  5. استحباب مغايظة أعداء الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في جملة هديه جملًا لأبي جهل في أنفه برة من فضة، يغيظ به المشركين.
  6. أمير الجيش ينبغي له أن يبعث العيون أمامه نحو العدو.
  7. الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن عينه صلى الله عليه وسلم الخزاعي كان كافرًا إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذه أخبارهم.
  8. استحباب مشورة الإمام رعيته، وجيشه؛ استخراجًا لوجه الرأي، واستطابة لنفوسهم، وأمنًا لعتبهم، وتعرفًا لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض، وامتثالًا لله عز وجل في قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159]، وقد مدح سبحانه وتعالى عباده بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38].
  9. جواز سبي ذراري المشركين إذا انفردوا عن رجالهم قبل مقاتلة الرجال.
  10. رد الكلام الباطل، ولو نسب إلى غير مكلف، فإنهم لما قالوا حين بركت ناقته صلى الله عليه وسلم: حرنت القصواء، ونسبوا إلى الناقة ما ليس من خلقها وطبعها، رده صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال: ما خلأت، وما ذاك لها بخلق، ثم أخبر صلى الله عليه وسلم عن سبب بروكها، وأن الذي حبس الفيل عن مكة حبسها للحكمة العظيمة التي ظهرت بسبب حبسها، وما جرى بعده.
  11. تسمية ما يلابسه الرجل من مراكبه ونحوها سنة.
  12. جواز الحلف، بل استحبابه على الخبر الديني الذي يريد تأكيده، وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعًا، وأمره الله تعالى بالحلف على تصديق ما أخبر به في ثلاثة مواضع من كتابه: في سورة يونس (1)، وسبأ (2)، والتغابن (3).
  13. إذا طلب المشركون وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة أمرًا يعظِّمون فيه حرمة من حرمات الله أجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن مُنِعوا من غيره، فيعاوَنُون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى أجيب إلى ذلك كائنا من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع، وأصعبها، وأشقها على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق، وقال عمر ما قال، حتى عمل له أعمالًا بعده، والصديق تلقاه بالرضى والتسليم، حتى كان قلبه فيه على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب عمر عما سأل عنه من ذلك بعين جواب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك يدل على أن الصديق رضي الله عنه أفضل الصحابة وأكملهم، وأعرفهم بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بدينه، وأقومهم بمحابه، وأشدهم موافقة له، ولذلك لم يسأل عمر عما وجد في قلبه إلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصِدِّيقَه خاصة، دون سائر أصحابه.
  14. من نزل قريبًا من مكة، فإنه ينبغي له أن ينزل في الحل، ويصلي في الحرم، وكذلك كان ابن عمر يصنع.
  15. جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم.
  16. في قيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف، ولم يكن عادته أن يقام على رأسه، وهو قاعد سنة يقتدى بها عند قدوم رسل العدو من إظهار العز والفخر وتعظيم الإمام، وطاعته، ووقايته بالنفوس، وهذه هي العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين، وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين، وهذا النوع مستثنى من الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار"، كما أن الفخر والخيلاء في الحرب ليسا من هذا النوع المذموم في غيره.
  17. في بعث البُدن في وجه الرجل الآخَر دليل على استحباب إظهار شعائر الإسلام لرسل الكفار.
  18. في قول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء" دليلٌ على أن رد المال المأخوذ بالغدر في غير حرب، فإن المغيرة كان قد صحبهم على الأمان، ثم غدر بهم، وأخذ أموالهم، فلم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم لأموالهم، ولا ذب عنها، ولا ضمنها لهم؛ لأن ذلك كان قبل إسلام المغيرة.
  19. في قول الصديق رضي الله عنه لعروة: "امصص ببظر اللات" دليل على جواز التصريح باسم العورة، إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرح لمن ادعى دعوى الجاهلية بهن أبيه، ويقال له: اعضض أير أبيك، ولا يكنى له، فلكل مقام مقال.
  20. احتمال قلة أدب رسول الكفار، وجهله وجفوته، ولا يقابل على ذلك؛ لما فيه من المصلحة العامة.
  21. طهارة النخامة، سواء كانت من رأس أو صدر.
  22. طهارة الماء المستعمل.
  23. استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطيرة المكروهة؛ لقوله لما جاء سهيل: سهل أمركم.
  24. المشهود عليه إذا عرف باسمه، واسم أبيه، أغنى ذلك عن ذكر الجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على محمد بن عبد الله، وقنع من سهيل بذكر اسمه، واسم أبيه خاصة، واشتراط ذكر الجد لا أصل له، ولما اشترى العداء بن خالد منه - صلى الله عليه وسلم - الغلام، فكتب له: "هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة"، فذكر جده، فهو زيادة بيان، تدل على أنه جائز، لا بأس به، ولا تدل على اشتراطه، ولما لم يكن في الشهرة بحيث يكتفى باسمه، واسم أبيه، ذكر جده فيشترط ذكر الجد عند الاشتراك في الاسم، واسم الأب، وعند عدم الاشتراك اكتفي بذكر الاسم، واسم الأب، والله أعلم.
  25. مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة؛ للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما.
  26. من حلف على فعل شيء أو نذره أو وعد غيره به، ولم يعيِّن وقتًا، لا بلفظه ولا بنيته، لم يكن على الفور بل على التراخي.
  27. الحلق نسك، وهو أفضل من التقصير، وأنه نسك في العمرة، كما هو نسك في الحج، وأنه نسك في عمرة المحصور، كما هو نسك في عمرة غيره.
  28. المحصر ينحر هديه حيث أحصر من الحل أو الحرم، وأنه لا يجب عليه أن يواعد من ينحره في الحرم، إذا لم يصل إليه، وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله، بدليل قوله تعالى: {والهدي معكوفا أن يبلغ محله} [الفتح: 25].
  29. الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحل، لا من الحرم؛ لأن الحرم كله محل الهدي.
  30. المحصر لا يجب عليه القضاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالحلق والنحر، ولم يأمر أحدًا منهم بالقضاء، والعمرة من العام القابل لم تكن واجبة، ولا قضاء عن عمرة الإحصار، فإنهم كانوا في عمرة الإحصار ألفًا وأربعمائة، وكانوا في عمرة القضية دون ذلك، وإنما سميت عمرة القضية، والقضاء؛ لأنها العمرة التي قاضاهم عليها.
  31. جواز صلح الكفار على رد من جاء منهم إلى المسلمين، وعدم رد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار.
  32. رد من جاء من الكفار إلى الإمام، لا يتناول من خرج منهم مسلمًا إلى غير بلد الإمام، وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب عليه رده بدون الطلب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أبا بصير حين جاءه، ولا أكرهه على الرجوع، ولكن لما جاءوا في طلبه مكنهم من أخذه، ولم يكرهه على الرجوع.
  33. المعاهدون إذا تسلموا من وقع الاتفاق على رده، وتمكنوا منه، فقتل أحدًا منهم لم يضمنه بدية، ولا قود، ولم يضمنه الإمام، بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم في ديارهم، حيث لا حكم للإمام عليهم، فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين بذي الحليفة، وهي من حكم المدينة، ولكن كان قد تسلموه، وفصل عن يد الإمام، وحكمه.
  34. المعاهدون إذا عاهدوا الإمام، فخرجت منهم طائفة فحاربتهم، وغنمت أموالهم، ولم يتحيزوا إلى الإمام، لم يجب على الإمام دفعهم عنهم، ومنعهم منهم، وسواء دخلوا في عقد الإمام، وعهده ودينه، أو لم يدخلوا، والعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين لم يكن عهدًا بين أبي بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين، وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم، ويغنم أموالهم، إذا لم يكن بينه وبينهم عهد.
  35. كانت هذه الهدنة مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له، ومفتاحًا، ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله سبحانه وتعالى في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطئ لها بين يديها مقدمات، وتوطئات تؤذن بها، وتدل عليها.
  36. هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس أمن بعضهم بعضًا، واختلط المسلمون بالكفار، وبادءوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن آمنين، وظهر من كان مختفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل، ولهذا سماه الله فتحًا مبينًا.
  37. ما سببه سبحانه وتعالى للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعان والانقياد، على ما أحبوا وكرهوا، وما حصل لهم في ذلك من الرضى بقضاء الله، وتصديق موعوده، وانتظار ما وعدوا به، وشهود منة الله، ونعمته عليهم بالسكينة التي أنزلها في قلوبهم، أحوج ما كانوا إليها في تلك الحال التي تزعزع لها الجبال، فأنزل الله عليهم من سكينته، ما اطمأنت به قلوبهم، وقويت به نفوسهم، وازدادوا به إيمانًا.
  38. أنه سبحانه وتعالى جعل هذا الحكم الذي حكم به لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين سببًا لما ذكره من المغفرة لرسوله صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولإتمام نعمته عليه، ولهدايته الصراط المستقيم، ونصره النصر العزيز، ورضاه به، ودخوله تحته، وانشراح صدره به.
المراجع
  1. صحيح البخاري (3/ 193-197) (2731)، فتح الباري لابن حجر (1/ 89)، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (4/ 443)، البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (31/ 246)، النهاية في غريب الحديث والأثر (731) (276) (395) (127) (73) (909).